أولاً: حتى لا نضيع في التفاصيل الصغيرة، التي نعتبرها مهمة، يجب التأكيد أولاً وأخيرًا على أنّ جريمة حصار غزة من قبل الدولة العبرية ما زالت بدون عقاب، والجريمة، هي الحصار، لأنّ حصار غزة، الذي وافق عليه العرب، علانيةً أو خفيةً، هو الجريمة مع أل التعريف.
وهذه مناسبة للتذكير بأنّ الدول العربيّة اتخذت في مؤتمر شرم الشيخ قرارًا بإعادة إعمار قطاع غزة، وبقي القرار حبرًا على ورق، وأكثر من ذلك، القرار لا يساوي الحبر الذي كُتب به، وبطبيعة الحال، لم يُنفذ العرب قرارهم، وأمعنوا في تخاذلهم، وأدمنوا على تقاعسهم، وجاء أسطول الحريّة ليكشف حالة العجز والهوان والذل العربيّة.
ثانيا: عندما نفّذ رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، أرييل شارون، ما يُسمى إسرائيليًّا بخطة فك الارتباط الأحادية الجانب في آب/ أغسطس 2005، زعم أركانها أنّ احتلال غزة قد انتهى، كيف انتهى وإسرائيل تُسيطر على القطاع برًّا وبحرًا وجوًّا؟ لا نعرف. بل أخطر من ذلك تذرع أقطاب تل أبيب بعملية المقاومة الفلسطينية لأسر جندي الاحتلال، جلعاد شاليط، الذي تلقى الأوامر بملاحقة الضحية، لكي يفرضوا حصارًا لا مثيل له في التاريخ القديم والحديث والمعاصر، على القطاع.
عملية مقاومة نوعية وشرعية، وفق القوانين والمواثيق والمعاهدات الدوليّة، ضدّ احتلال غير شرعي، تمنح الجزار تبريرًا بحسب منطقة العدواني والاستعلائي لتأسيس أكبر سجن في العالم، سجن يقبع فيه مليون ونصف مليون فلسطيني، يُحاصرون، ولكنّ دولة الاحتلال تكتشف بعد أربع سنوات، أنّ المحاصرين، حاصروا حصارها، وفضحوا عدوانها، وفتحوا الباب على مصراعيه، مرّة أخرى، أمام تحقيق دولي قد يقود إلى غولدستون رقم 2.
وفي اعتقادنا المتواضع جدًّا، يجب تعيين لجنة تحقيق أممية لكشف ملابسات حصار غزة لفضح العرب والمستعربين الذين شاركوا وما زالوا في خنق الفلسطينيين بالقطاع.
ثالثا: الأردن ومصر تقيمان علاقات مع إسرائيل، وبالتالي من يُعوّل على رد فعلٍ من هذين النظامين لا يُعوّل عليه. وهذه مناسبة للتذكير مرّة أخرى بأنّ نظام حسني مبارك هو شريك في الحصار الإجرامي على قطاع غزة، ومتواطئ مع السياسات العدوانية للدولة العبريّة.
ولكي لا نُتهم بالتجني على النظام الحاكم في القاهرة، نقول إنّ إغلاق معبر رفح الحدودي من قبل مصر مبارك، وهو المعبر الوحيد لأهلنا في القطاع، ومنفذ الاتصالات الوحيد مع العالم الخارجي، جاء تماشيًّا وتماهيًّا مع سياسة إسرائيل الرسميّة والمعلنة.
علاوة على ذلك، رد الفعل المصري والأردني على الجريمة الإسرائيلية اقتصر على استدعاء السفيرين في القاهرة وعمّان لتقديم الاحتجاجات، أي أنّ هذا السلوك لا يتعدى سلوك الدول الغربية التي قامت باستدعاء سفراء تل أبيب ووبختهم على جريمة الحرب التي ارتكبتها دولتهم المارقة بامتياز والمعربدة بتفوق.
نعم، نعترف بأنّ مصر قررت فتح معبر رفح أمام الفلسطينيين، بعد مجزرة البحرية الإسرائيلية، ولكن يحق لنا أنْ نسأل وبأعلى صوت: هل كانت هذه المجزرة لتحدث لو أنّ المعبر، الذي لم يُفتح إلّا لمامًا منذ بدء الحصار، كان مفتوحًا أمام الفلسطينيين المحاصرين والمجوعين؟
" العرب يملكون الكثير من أوراق الضغط، ولكن هذه الأوراق موضوعة في الأدراج، وتآكلت بفضل العفن، فقد استخدم العرب هذا السلاح عام 1973 للضغط على رأس حربة الإمبريالية العالمية، أميركا، وربيتها وحليفتها إسرائيل
" |
أوراق ضغط
رابعا: والشيء بالشيء يذكر، فقد أعلن اتحاد كرة القدم السويدي "الشقيق" إلغاء مباراة رسمية لمنتخب الشبيبة أمام المنتخب الإسرائيلي كان مقررًا إجراؤها اليوم الجمعة، وذلك في أعقاب مجزرة أسطول الحرية، الذي شارك فيه 11 مواطنًا سويديًّا. وأبلغ اتحاد كرة القدم السويدي الاتحاد الدولي لكرة القدم إلغاء المباراة في إطار المباريات التمهيدية لبطولة أوروبا لمنتخبات الشبيبة، وعدم إرسال منتخب الشبيبة إلى إسرائيل لإجراء المباراة, وقال لارس أكه لارغل، رئيس الاتحاد السويدي: كأي إنسان، نحن مشمئزون من العنف ومندهشون مما شاهدناه.
هذا التصرف الشهم من قبل السويد يحمل في طياته مدلولات كبيرة، أولها أنّ هذه الدولة الإسكندنافية، هي دولة ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان، وتحترم مواطنيها، كما أنّ السويد، خلافًا للدول العربية، تُحكم في ما تُحكم من الرأي العام المحلي والعالمي، وترسم سياساتها بناءً على مصالحها والرأي العام فيها، لأنّها حكومة تمّ انتخابها بشكلٍ ديمقراطي.
وها هي نيكاراغوا تُعلن رسميًّا وفوريًّا عن قطع علاقاتها الدبلوماسية مع الدولة العبرية، وأكدت هذه الدولة على أنّها ملزمة بالدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني واتهمت إسرائيل بخرق القانون الدولي والدوس على حقوق الإنسان.
خامسا: العرب يملكون الكثير من أوراق الضغط، ولكن هذه الأوراق موضوعة في الأدراج، وتآكلت بفضل العفن، فقد استخدم العرب هذا السلاح عام 1973 للضغط على رأس حربة الإمبريالية العالمية أميركا، وربيتها وحليفتها إسرائيل. ونرى أنّ هذا المقام مناسب لأنْ نورد ما يلي: في كتابه المهم والحافل بالمعطيات "أمن الخليج العربي: تطوره وإشكالاته من منظور العلاقات الإقليمية والدولية"، لاحظ المؤرخ الكويتي ظافر العجمي بدقةٍ أنّ النفط أخطر سلاح في السلم والحرب، فهو مصدر الطاقة التي تحرك مصانع السلاح في السلم، والطاقة التي تحرك معدات الحرب، وأضاف متسائلاً: هل بإمكان دول الخليج العربي استخدام سلاح النفط مرة أخرى لخدمة قضاياها؟ الجواب عن هذا السؤال في ظل المعطيات الموجودة وموازين القوى التي تحكم العلاقات الدوليّة: لا. وبالتالي نحن لا نطلب الكثير، نطلب فقط التلويح باستعمال سلاح النفط.
سادسا: في هذا الزمن الرديء تطورت لدى العرب ثقافة جديدة، نُسميها مجازًا ثقافة الإعجاب، فعندما تكون عاجزًا تبدأ البحث عن أمور تُعجب بها، والآن في الموضة الإعجاب العربي بالأتراك، قادةً وشعبًا، هذا الإعجاب الذي فاق كل التوقعات، حتى بات يُخيّل إلى الإنسان العادي أنّ الحقيقة تغلبت على الخيال.
نعم نضم صوتنا إلى أصوات أحرار العالم ونحيّي تركيا على موقفها وممارساتها المناصرة للشعب العربيّ الفلسطيني، ولكن بالمقابل نُحذّر من تحويل أحفاد العثمانيين إلى أوصياء على الأمّة العربيّة. الدور التركي مهمّ للغاية، ولكن هذا الأمر لا يعني بأيّ حالٍ من الأحوال مبايعة تركيا للتهرب من استحقاقات المسؤولية التاريخية والوطنية، على الأمّة العربيّة أن لا تُحوّل النموذج التركي إلى رافعة للتخلص من عوراتها، عليها أن تأخذ زمام المبادرة في محاولة لإحياء الدور العربيّ، والتوقف عن البحث في أنفاق مظلمة عن قوى إقليمية وعالمية لقيادة معاركها، فمرّة إيران، وتارة تركيا.
" لا أفعال ولا ردود أفعال، أمّة خاملة، تحوّلت إلى أمّة تعيش بفضل المعونات الغربيّة وأجهزة التنفس الصناعية، وديمقراطية حكّام دويلات سايكس بيكو، وعندما نطلب من الآخرين احترامنا، علينا أن نتذكّر أنّ هذا المطلب هو ضرب من المستحيل، لأنّنا أمّة لا تحترم نفسها، ولا تاريخها، ولا حضارتها
" |
مفاوضات وعربدة
سابعا: سلطة رام الله بقيادة محمود عبّاس وصديقه سلام فيّاض، أدانت مشكورةً عملية القرصنة الإجرامية التي قامت بها إسرائيل، وأعلنت عن ثلاثة أيام حداد، ولكنّها لم تُعلن مثلاً عن إلغاء المفاوضات غير المباشرة مع قرصان القراصنة، بنيامين نتنياهو، ومع مجرم الحرب، إيهود باراك، وبما أنّ الحداد على أرواح شهداء الحريّة قد انتهى، يحق لنا أنْ نسأل: لماذا لم تنطلق المظاهرات في الضفة الغربيّة "المحررة" من احتلال حركة المقاومة الإسلامية (حماس)؟
هل الأجهزة الأمنية الفلسطينية التي لا تُخفي التنسيق مع الاحتلال الإسرائيلي، منعت إخوتنا في الضفة من إطلاق صرخة مدويّة ضدّ العملية الإجرامية؟ هل باتت المظاهرات تُشكّل خطرًا على الأمن القومي للدولة الفلسطينية العتيدة؟ وهل جاء قرار منع التظاهر تضامنًا وتساوقًا مع إسرائيل في محنتها وفضيحتها المجلجلة؟ وفي ظل هذه التصرفات المخزية، كيف يُمكن استثمار الجريمة الإسرائيلية وتوظيفها من أجل القضاء على الانقسام الفلسطيني؟
نميل إلى ترجيح أنّ هذه الجريمة لن تقودنا إلى إعادة اللحمة داخل البيت الفلسطيني، لأنّ الأمور تمّ فرزها بشكلٍ واضحٍ للغاية، فهناك نهج الاستسلام، المسمى زورًا وبهتانًا، نهج السلام، وهناك نهج المقاومة.
المقاومة لا تسير في خطٍّ واحدٍ مع نهج فيّاض وعبّاس، بل بالعكس، نحن بصدد خطين متوازيين لا ولن يلتقيا أبدًا. وعدم الإعلان عن وقف كل شكل من الاتصالات مع إسرائيل من قبل السلطة في رام الله هو بمثابة منح دولة الاحتلال طوق نجاة لاستغلال ما يُسمى بعملية السلام للتستر على جرائمها البشعة.
ثامنا: العربدة الإسرائيلية ستتواصل، رئيس الوزراء نتنياهو أعلن بعد الجريمة أنّ الحصار على غزة هاشم سيستمر، الوزير يوسي بيليد، من أقطاب حزب الليكود الحاكم، أكد للتلفزيون الإسرائيلي أنّ الدولة العبرية ستقوم بمنع أيّ سفينة ستشد الرحال إلى القطاع المحاصر، أي أنّ هذه الدولة المارقة تواصل تحدي العالم برمته، وبالتالي فإنّ هذا التطور يُلزم العالم، وفي مقدمته العالم العربي والإسلامي، قادة وشعبًا، بأن يرتقي إلى مستوى الحدث، وأنْ يتحدى التحديات الجسام التي تضعها إسرائيل.
لا نُطالب بشنّ حربٍ على إسرائيل، بل نُطالب بأنْ يؤكد العرب والمسلمون على أنّهم بصدد الانتقال من مرحلة ردود الفعل إلى الفعل، وهذا ليس مستحيلاً، لأنّ وقف العنجهية الإسرائيلية ومواجهتها وممانعتها لا تمكن بواسطة بيانات الشجب والاستنكار التي لا تهم أحدًا ولا تؤثر على أحدٍ، وعندما يرى الغربي أنّ العربيّ ليس مهتمًّا بقضاياه المصيرية، فكيف سيتحرك لنصرتنا ومؤازرة قضايانا العادلة؟
خلاصة الكلام: يقول نيوتن في أحد أشهر قوانينه: لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه، ولكنْ من الأكيد أنّ هذا الفيزيائي لم يقم بزيارة للوطن العربي، الذي يدحض نظريته، فلا أفعال ولا ردود أفعال، أمّة خاملة، تحوّلت إلى أمّة تعيش بفضل المعونات الغربيّة وأجهزة التنفس الصناعية، وديمقراطية حكّام دويلات سايكس بيكو.
وعندما نطلب من الآخرين احترامنا، علينا أن نتذكّر أنّ هذا المطلب هو ضرب من المستحيل، لأنّنا أمّة لا تحترم نفسها، ولا تاريخها، ولا حضارتها، أمّة تبحث عن أبطال.
للأسف الشديد نقولها بحسرةٍ وألم شديدين: أنْ تكون عربيًّا في هذه الأيام باتت مهمة صعبة، إنْ لم تكن مستحيلة، فنحن، يا أختي العربيّة ويا أخي العربيّ، أمّة مهزومة، مأزومة ومحكومة من عروش مهزوزةٍ.
0 comments :
Post a Comment